ممرات مفخخة: آخر حلقات «هندسة التجويع» في غزة

16 يونيو 2025

بعد يومين على بدء العمل به، يبدو أن مشروع مراكز توزيع المساعدات الذي يديره الاحتلال عبر شركة أمريكية وصل طريقًا مسدودًا.


لم يطل الزهو الإسرائيلي بتوجه عشرات الآلاف من الغزيين نحو مركز توزيع المساعدات في مدينة رفح. فقد أفضى فقدان شركة الحماية الأمريكية السيطرة على الحشود إلى تفكيك المنشأة ونهب كاميرات المراقبة وأجهزة الحاسوب وكل ما طاولته أيدي الحشود وصولًا إلى علبة سجائر أحد الجنود الأمريكيين، والظفر بكامل كمية المساعدات المتاحة، قبل أن يتدخل جيش الاحتلال لإجلاء الجنود الأمريكيين. 
هكذا انتهى اليوم الأول بمشهد سوريالي مفاجئ؛ فشل الأمريكيون، وحقق الفلسطينيون الهدف بطريقة تجاوزت افتراضات المُنظّرين وطنيًا على المجوّعين، إذ إن للجوع ارتدادات تقفز خارج صندوق المنطق. 
الإسرائيليون الذين خططوا، والأمريكيون الذين جاؤوا ليطبقوا خطة «هندسة التجويع»، بنوا موقعًا «إنسانيًا» عسكريًا، يحتاج الوصول إليه المشي على الأقدام لمسافة مكشوفة وخالية من المباني يتجاوز طولها الـ1500 متر، بعد أن يقطع الجائعون أضعافها للوصول من غرب مدينة خانيونس إلى مدينة رفح المدمرة. 
وفعلًا وصل الآلاف من الجوعى إلى دوار العلم بحي تل السلطان وعبروا ممرات طويلة محاطة بالسياج والأسلاك الشائكة، تعلوها كاميرات مراقبة، تقود إلى ساحة أخرى مقسمة إلى عدة ممرات أخرى تشبه في صورتها الجوية سجن سدي تيمان سيء السمعة، وعلى بعد مسافة تقل عن الـ300 مترًا تتمركز دبابات الاحتلال. يقول أحمد حسنين الذي خاض التجربة يوم الثلاثاء إن جنودًا يحملون الأسلحة الأمريكية، ويتحدثون العربية بلهجات عربية مختلفة، كانوا يطلبون من كل من يصل إلى ساحة الاستلام، الكشف عن بطنه ونزع بعضٍ من ملابسه، قبل التقدم إلى مساحة فيها طاولات وأجهزة حاسوب يجري الموظفون فيها عملية فحص وتدقيق أمني، قبل أن يُقدموا طردًا غذائيًا يحتوي على كمية محدودة من المواد التموينية الأساسية تكفي عائلة مكونة من خمسة أفراد أقل من أسبوع. 
تهدف هذه الآلية إلى تقويض حكم حركة «حماس» المدني، حيث يزعم الإسرائيليون أن المساعدات المسروقة أنبوب الأكسجين الوحيد الذي يسمح له بالبقاء. هذه الآلية هي الوجه البديل لفرض الإدارة العسكرية والمدنية الإسرائيلية على القطاع. وقد وصفها وزير المالية الإسرائيلي بتسلائيل سموتريتش بأنها: «نقطة التحول التي ستؤدي إلى النصر وتدمير حماس». 
رد الإعلام الحكومي في غزة على «الافتراءات» الإسرائيلية ووصف ما يسمى بـ«مراكز التوزيع الآمنة» بأنها «غيتوهات عازلة عنصرية أقيمت تحت إشراف الاحتلال في مناطق مكشوفة ومعزولة وتعد نموذجًا قسريًا للممرات الإنسانية المفخخة التي تستخدم غطاء لتمرير أجندات الاحتلال الأمنية، وتكرس سياسية التجويع والابتزاز في ظل المنع الممنهج لدخول المساعدات عبر المعابر الرسمية والمؤسسات الدولية المحايدة»، وقد اعتبرت الهيئة العليا لشؤون العشائر أن الآلية الإسرائيلية الأمريكية الجديدة هي «مؤامرة تتصدى لها عائلات القطاع عبر التبرؤ من كل شركة تتورط في العمل معها». 
وكانت الإدارة الأمريكية قد أعلنت مطلع الشهر الجاري عن انطلاق مؤسسة غزة الإنسانية (GHF) وتهدف المؤسسة إلى حشد التمويل الدولي المستدام لمساعدة الغزيين. وبموازاة ذلك، أعلنت الشركة عن توكيل شركة (SRS) الأمنية الأمريكية التي يديرها جنود وضباط متقاعدون من البحرية الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية بإدارة التوزيع. وعقب ذلك، تحدثت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن وجود ارتياح في المؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية لارتباط آلية توزيع المساعدات بالأمريكيين وهي تلبي المتطلبات الأمنية الإسرائيلية، وقد أشارت الصحيفة إلى أن أحد أهم أهداف إقامة أربعة مراكز توزيع مساعدات في مناطق جنوب وادي غزة، هو ترحيل نحو مليون غزي من شمال القطاع إلى جنوبه، حيث سيجبرون بدافع الجوع إلى النزوح إلى مكان قريب من مراكز التوزيع في الجنوب. 
قدّم الشارع الغزي استجابات متباينة تجاه هذه الآلية تستند في أساسها على الظرف الفردي الخاص لكل حالة. أبو أحمد مسن يبلغ من العمر 62 عامًا، وهو نازح من مخيم جباليا أقصى شمال القطاع، قال لـ«حبر» إنه يمتلك بين أسنانه سنًا من الذهب وهو آخر ما يملك، سيقتلعه ويبيعه لإطعام أحفاده وأبنائه قبل أن يقرر النزوح مجددًا إلى جنوب القطاع للحصول على المساعدات. وأضاف: «أهداف عدونا خبيثة، وتجربة النزوح للجنوب صعبة، لكن إحنا بنعيش صراع بقاء، لو أنا قبلت على نفسي أموت جوع، ما برضى على أبنائي وأحفادي. لهيك أنا وكل الناس رح نكافح الجوع على آخر نفس فينا قبل ما نقبل نتعاطى مع الآلية الإسرائيلية». أمّا عوض أحمد وهو نازح من مدينة بيت لاهيا يعيل عائلة مكونة من سبعة أبناء فقد بدا مستسلمًا لأسوأ الخيارات المتاحة: «أنا بفضل الموت جوعًا على خوض رحلة عذاب كهذه، مطلوب منا نمشي على أقدامنا 25 كيلو ذهابًا و25 كيلو متر إيابًا، حتى نحصل على طرد غذائي لا يكفي لخمسة أيام، وقيمته المادية في الوضع الطبيعي ما بتتجاوز 20 دولار، ونكرر العملية أسبوعيًا. لا والله الموت جوعًا أشرف من هالعذاب».
على الصعيد الدولي بدا واضحًا أن بؤس اليوم الأول انعكس في شكل تسونامي من التصريحات الغاضبة، حيث وصف المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في السكن اللائق بالاكريشنان راجاغوبال طريقة التوزيع بـ«السادية» وقال في منشور على منصة إكس إنه «عاجز عن الكلام أمام هذا «التوصيل السادي للمساعدات» في غزة إن كان هذا صحيحًا. إنها جريمة الجرائم الأمريكية الإسرائيلية، أن تُستخدم المساعدات لإذلال الناس وقتلهم وتعذيبهم». كما سارعت الأمم المتحدة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين «أونروا» ومؤسسات حقوقية أخرى إلى إدانة الآلية الجديدة، وطالبت بتحييد المساعدات وعدم استخدامها سلاحًا وأداة ابتزاز. 
بناءً على ما حصل، أعلنت الشركة الأمريكية وقف العمل في مراكز التوزيع بشكل مؤقت، إلى حين تدارك التعقيدات التي خلفها اليوم الأول، غير أن إحدى أهم نتائج المشهد البائس، تبدت في اليوم التالي، فخلافًا لليوم الأول قررت الرقابة الإسرائيلية فرضَ تعتيم كامل على تشغيل أحد المراكز في جنوب القطاع، ولم تنشر وسائل الإعلام العبرية حتى مساء يوم الأربعاء أي صورة لعملية التوزيع. ومع ساعات المساء أعلنت مؤسسة غزة الإغاثية عن وقف التوزيع بسبب ما وصفته «حالات الشغب وعدم التزام بعض الأفراد». وفي استمرار لحالة تداعي المشروع ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن اثنين من كبار مسؤولي مؤسسة غزة الإنسانية قدما استقالتهما هذا الأسبوع. 
في محصلة الأمر، ورغم ما يبديه الإسرائيليون من رغبة في استنفاد فرص المحاولة، فإن آلية توزيع المساعدات تحمل كل عوامل الفشل الذاتية، إذ تفتقر للغطاء القانوني وتعترضها عقبات لوجستية أقلها رفض المؤسسات الدولية الشراكة معها، وتفتقر أيضًا لفهم الواقع المجتمعي فضلًا عن معاندة القانون الدولي الذي ينظر إلى الطريقة كجريمة حرب. ويمثل إعلان برنامج الأغذية العالمي مساء يوم الأربعاء عن استئناف إدخال المساعدات وفق الآلية التقليدية قريبًا وعبر 400 مركز توزيع منتشرة من شمال القطاع لجنوبه بداية تداعي تلك الآلية.


لا توجد تعليقات حتى الآن

لا تعليقات حتى الآن. بدء مناقشة جديدة.

أضف تعليق