جرحى غزة ولبنان: دفاتر الحرب التي لم تطوَ

16 يونيو 2025

تروي هذه القصص المصورة اللحظات الأولى من إصابة مدنيين في ضياع في جنوب لبنان ومخيمات اللاجئين في غزة، وكيف يعيشون هذه الأيام مع هذه الجروح.


منذ بداية الحرب على غزة، والتي توسعت لاحقًا لتشمل لبنان، جُرِح عشرات الآلاف بفعل آلة الحرب «الإسرائيلية»، إذ بلغ عدد الجرحى في غزة أكثر من 120 ألفًا، وفي لبنان حوالي 16 ألفًا. لم تكن تلك الإصابات نتيجة خطأ في رماية دبابة أو انحراف صاروخ عن مساره. لقد بدا كما لو أن الاستهدافات تخضع لتعليمات كُتيّب حرب يجري فيها استهداف المدنيين لأجل القتل، وحين يخطئ الصاروخ والقذيفة الهدف تجري مطاردة الناجين في أكثر من مكان ولأكثر من مرة.
ساءت جراح البعض واستشهدوا بسبب حصارهم عبر منع فرق الإنقاذ والإسعاف من الوصول إليهم، مثلما حصل مع الكثيرين في قرى جنوب لبنان، وبُترت أعضاء آخرين في مكان الاستهداف ودون مخدر أو إجراءات طبية سليمة بسبب منع إدخال أجهزة الإنقاذ والإسعاف والأدوية إلى قطاع غزة.
أصيب هؤلاء الجرحى داخل بيوتهم، وفي المدارس التي تحوّلت إلى مراكز إيواء للنازحين، وخلال نوبات عملهم في المتاجر والمصالح الخاصة.
يروي جرحى من لبنان وغزة اللحظات الأولى لاستهدافهم، وكيف يعيشون بعدها بجروحهم، إذ فقد بعضهم أعضاءً من أجسادهم مثل مصطفى وشهد وعبد الرحمن من غزة، وآخرون فقدوا البصر مثل زينب، وآخرون فقدوا مصالحهم مثل حسين، فيما ستبقى ولفترات طويلة مشاهد هدم البيوت على ساكنيها، والنوم تحت ركام البيوت لساعات طويلة مع جثامين الشهداء في أذهان آخرين.

ثلاثة استهدافات لبتر قدم عبد الرحمن

قصفت الطائرات الإسرائيلية بيت عائلة النشاش في مخيم البريج، فاستشهد الوالد والأعمام، ونجا عبد الرحمن (11 عامًا).
نزح عبد الرحمن مع من بقي من العائلة إلى مدارس أبو عربان في مخيم النصيرات لأنهم ظنّوها آمنة، لكن الطائرات قصفتهم مجددًا ونجا عبد الرحمن ثانية. نزح بعدها أكثر من مرّة ليستقر به المقام أخيرًا نازحًا في مدارس الرازي في مخيم النصيرات. هناك بدا الوضع آمنًا فبدأ العمل على بسطة صغيرة يصرف منها على إخوته. لكن طائرات الاحتلال عادت وقصفت المدرسة والنازحين فيها وما حولها وبسطة عبد الرحمن ورجله اليسرى.
جاب المنقذون ثلاث مستشفيات وفي كل مستشفى كان الأطباء يقولون لعبد الرحمن إن قدمه بحاجة إلى بتر، وحين تأكد أن لا خيار آخر قال لهم «توكلوا على الله»، فبتروا الرِجل وصار برجل واحدة وعكاز.
استطاع عبد الرحمن أن يبتكر وقفة جديدة، يضع فيها ما تبقى من رجله المبتورة على العكاز لتصير رجلًا كاملة. هل تعلّم هذه الوقفة من أحدٍ في غزة؟ ربما، فالأمر شائع في القطاع، إذ يقدّر عدد المصابين بإصابات الأطراف، وهو الشكل السائد للإصابات، بنحو 15 ألف حالة.
هذه الأيام، يقف بجوار دراجته الهوائية برجل واحدة وعكاز، ويضع في فمه مصاصّة، «[نفسي] أركّب رجل صناعية، وأرجع أمشي، وأسوق بسكليت، وسيارة، وأعمل اللي نفسي فيه».
يحلم عبد الرحمن أن يُركّب رجلًا اصطناعية، ويعود قادرًا على ركوب الدراجة، وأن يقود في المستقبل سيارة. تصوير: مجدي فتحي.

مصطفى: حصار الجرحى الطويل

في السابع والعشرين من تشرين الأول 2023 كان مصطفى نصر (13 عامًا) وعائلته نازحين عند بيت خاله. فجأةً تكاثف الغبار حولهم ولم يعد أحدهم يرى الآخر. وما هي إلّا لحظات حتى شاهدهم مصطفى متكوّمين فوق بعضهم، فقد استشهد من عائلته من استشهد ومنهم أخته. سمع صوت أبيه يناديه، لكنه كان عاجزًا عن النهوض بسبب وجود كتل باطون فوقه.
وصلت طواقم الإنقاذ والإسعاف إلى مصطفى، لكنهم وقفوا بالقرب منه حائرين، فالجزء السفلي من جسده تحت الردم، والمعدات المتوافرة بين أيديهم شحيحة، «إللي كانوا حوالي جايين ينقذوني ما بكوش عارفين شو يعملوا، ما لكوش حل»، يقول مصطفى. ويضيف: «صرت أصرخ، وما بقيتش قادر من شدة الألم».
دون مخدر أو مسكّن بتر فريق الإنقاذ قدميْ مصطفى فغاب عن الوعي من شدة الألم، وركضوا بجسده دون القدمين إلى المستشفى: «قعدت يوم ونص غايب عن الوعي، صحيت لقيت رجليّ مبتورات».
يعيش مصطفى اليوم في خيمة للنازحين جالسًا معظم الوقت وقد حدّ بتر رجليه من حركته. لن يكون بمقدوره المشي مثل الماضي، ولا ممارسة هواياته في السباحة. أحيانًا يلعب كرة القدم مع أقرانه في ملعب قريب ولكن بيديه.
في بعض شهور الحرب، كان من المعتاد أن يَفقد أكثر من عشرة أطفال في المتوسط ​​إحدى ساقيهم أو كلتيهما يوميًا، وصار من المعتاد أن تُجرى عمليات البتر دون تخدير، ودون توفر مسكنات للألم، مثلما حصل مع مصطفى.
بحّ صوت فرق الإنقاذ والإسعاف منذ بداية الحرب وهي تناشد بإدخال معدات الإنقاذ لكن «إسرائيل» التي تحاصر القطاع منذ العام 2007 -أي قبل أن يولد مصطفى- لا تسمح بدخول المعدات مثل الجرافات والحفارات، ولا وسائل الإسعاف مثل الأدوية والمخدر الطبي، ولو وصلت لما فقد مصطفى رجليه.
منذ إصابته، يعيش مصطفى في خيمة النزوح جالسًا معظم الوقت، وإن كان أقرانه يلعبون معه كرة القدم أحيانًا، ولكن باليد. تصوير: مجدي فتحي.

شهد: «لقيت حالي عايشة»

في المرة الأولى، نجت شهد طافش (16 عامًا) مع عائلتها من قصف مدرسة العائلة المقدّسة في غزة. في المرة الثانية نزل عليهم الصاروخ مخترقًا السقف، ولم تسمع شيئًا.
يُقال في غزة إن سمعت صوت الصاروخ فهذا يعني أنك حيّ، وشهد من شدة القصف طارت من منتصف الغرفة وارتطمت بالجدار ووقعت ووقع فوقها الردم، ولم تسمع صوت الصاروخ؛ لذا ظنّت أنها استشهدت: «بعدين لقيت حالي عايشة، وصرت أنادي حد يساعدني».
حين أخرجها المنقذون شعرت بسخونة في رجلها، وفي طريقها إلى المستشفى في سيارة الإسعاف بتروا رجلها عن جسدها.
تمرّ شهد بعمر المراهقة، لهذا تراها أمام الكاميرا تهتم بهندامها ومنه فردة الحذاء في رجلها السليمة، وتقرأ رواية حالات نادرة والتي تتحدث عن مشاكل المراهقين في الكويت، بالإضافة إلى روايات أجاثا كريستي البوليسية، وتحاول إخفاء شعورها بفقدان رِجلها: «مش متأثرة كثير، بس حسيت إنه غير عن أول».
تعوّل شهد على تركيب طرف صناعي، واستكمال علاج الرِجل الأخرى من أجل مواصلة حياتها، مطالِبة العالم أن ترجع غزة مثل الماضي.
رغم حالتها، تشارك شهد في رعاية إخوانها، وتقول إن عليها أن تبقى معهم لأنها أكبر منهم، لكنها تستدرك: «بس أنا صغيرة».
لشهد مطلب بسيط، وهو أن تتوقف الحرب. وفي الأثناء تستمر في محاولة الاعتناء بإخوتها وبنفسها، وفي قراءة ما يتوفر بين يديها من روايات لتمضية الوقت. تصوير: مجدي فتحي.

لينا: منع إسعاف الجرحى

لم تنم لينا ليلة 29 تشرين الأول من العام الماضي. طلع النهار وطائرات المراقبة الإسرائيلية تملأ السماء فوق بيتها في ضيعة كفر تبنيت في قضاء النبطية جنوبيّ لبنان.
كان معها في البيت ابنها الثلاثيني وشقيقها. عند الغروب بدأت الصواريخ تنزل بالقرب منهم، عدّت لينا منها صاروخين ولم تكمل العدّ لأن الثالث نزل على بيتها. لتصير هي وابنها تحت الردم خلال ثوانٍ.
تنادي لينا على ابنها: «يا علي، إذا مش قادر ترد يا ماما، حرك إجريك». يحرك علي رجليه فتطمئن. وصل المسعفون بعد ربع ساعة لكنهم لم يسمعوا نداءات لينا من شدة صوت طائرات المراقبة والدرونز في السماء فغادروا، ثم عادوا بعد ساعتين لكن علي كان قد استشهد.
قضت لينا ليلتها تتحدث مع جثمان ابنها: «كنت قلو يا علي عطشت؟ كنت قلو الصاروخ ما قتلني، [بس] هلأ حموت من العطش».
بعد أكثر من 12 ساعة أمضتها عطشى وجريحة تحت الردم، وجثمان ابنها إلى جوارها، طلع الفجر ووصل المسعفون وحفروا بأيديهم حتى وصلوا إليهما.
الآن، وبعد أشهر من تلك الليلة، تقف لينا على أنقاض بيتها، لكنها ستعيش من دون ابنها الوحيد بقية عمرها. تتذكر ذلك اليوم وقد كان يمكن أن يكون ابنها معها الآن لو لم يمنع الاحتلال المسعفين من الوصول إليه.
خلال الحرب، كان جيش الاحتلال الإسرائيلي يحاصر الجرحى ويمنع إنقاذهم في جنوب لبنان بشكل ممنهج من خلال قتل المسعفين وقصف سيارات الإسعاف والمستشفيات ومراكز الطوارئ والإغاثة.
خلال الحرب على لبنان، اعتاد الاحتلال استهداف الفرق الصحية وسيارات الإسعاف، ما أدى لاستشهاد العديدين، ومن بينهم ابن لينا، والذي كانت وإياه لليلة كاملة تحت ردم منزلهما. تصوير: فاطمة جمعة.

فاطمة وزينب: «ما في شي بيرجع متل ما كان»

في ذلك اليوم نفسه، 29 تشرين الأول، ولكن في قرية الصرفند، اجتمعت ثلاثة أجيال من عائلة خليفة في بيت واحد.
في واحدة من طبقات البيت، وحولها أطفالها الثلاثة يلعبون، شرد ذهن زينب، وحين عاد إليها بعد برهةٍ لم يكن أطفالها عندها. ظنت أنها تحلم، وسألت نفسها: أين الأولاد؟ لماذا تنام على التراب في حديقة الجيران. «مثل المنام، الروح طارت عالسما» تصف زينب تلك الفترة القصيرة.
قصفت الطائرات المنزل بمن فيه، ومن شدة الانفجار طارت زينب إلى حديقة الجيران وطارت معها قريبتها فاطمة من واحدة من طبقات البيت الأخرى.
تعتقد زينب أن الله يحجب الألم عن الجريح حيث تطير روحه إلى السماء، وإن اختار الله هذه الروح بقيت عنده، وإن لم يخترها عادت إلى الأرض، وحينها فقط يبدأ الألم.
بعد الانفجار، صعدت أكثر من عشرين روحًا من طبقات البيت الثلاثة إلى السماء، وعادت خمسة أرواح إلى الأرض، بينها أرواح زينب وفاطمة، وعلي الذي يبلغ الرابعة من عمره.
خضعت فاطمة لعدة عمليات جراحية بسبب كسور في الجمجمة والركبة وأماكن أخرى من جسدها، التهب جرح رأسها من بعدها وظل مفتوحًا خمسة أشهر. وبعد شهور من العمليات الجراحية والعلاج وملازمة السرير تقول: «مستحيل كل شي يرجع مثل هو، كله تغير، ما في شي بيرجع متل ما كان».
لم تتمكن زينب التي أصيبت في عينيها من الرؤية لأكثر من شهرين، وأجريت لها عملية جراحية تحسنت على إثرها الرؤية، لكنها ما زالت لا ترى فيها بشكل واضح، وتحتاج العين الثانية إلى عملية زراعة عدسة لكنها عملية غير مضمونة النتائج، بالإضافة إلى معاناتها من آثار الجروح والحروق في جسدها.
من بين الأرواح التي بقيت في السماء، أطفال زينب الثلاثة، أحمد (ثمانية أعوام) وفاطمة (خمسة أعوام) وحسين (ثلاثة أعوام) بالإضافة إلى روح زوجها. في حين عادت روح الطفل علي بعد 14 ساعة قضاها تحت الردم مصابًا وبترت على إثرها يده، وأصيب عدة إصابات لا يزال يخضع للعلاج منها حتى الآن. وقد اختار علي أن يأخذ صورة له أمام صورة العائلة التي فقدها.
من بين أفراد عائلة خليفة التي كانت أجيال مختلفة منها تجتمع في منزلها في قرية الصرفند جنوبيّ لبنان استشهد أجداد وآباء وأمهات وأطفال. ومن بقوا لم تسلم أجسادهم حتى اليوم من آثار القصف. تصوير فاطمة جمعة.

علي: «ما معقول كان يعيش حدا»

رغم اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة اللبنانية و«إسرائيل»، إلا أن الأخيرة ما زالت تقصف لبنان بين فترة وأخرى، حتى صارت الاستهدافات وآثارها جزءًا من الحياة اليومية لأهالي جنوب لبنان.
في أواخر شهر آذار الماضي قتلت واحدة من الغارات الإسرائيلية على بلدة تولين التابعة لقضاء مرجعيون خمسة أشخاص بينهم طفلة، وأصابت أكثر من عشرة آخرين بينهم علي (20 عامًا).
كان علي طالبًا جامعيًا، ومن أجل تحسين وضعه المادي، عمل في تعاونية هي جزء من المركز التجاري في القرية.
في البداية ظنّ الناس أن جميع من في المركز التجاري قد استشهد من شدة القصف وتسوية المبنى بالأرض، غير أن علي الذي طار من شدة الانفجار سقط في زاوية إحدى الغرف وحماه عامود الغرفة من الموت بعد أن سقط عليه: «من حظه الزاوية اللي كان فيها كان فيها هالعامود»، تقول أمه. دخل شقيقه وبيده معول وخلّصه ثم نقل إلى مستشفى في تبنين.
الآن، يرقد علي في المستشفى مع قُطَب كتيرة في رأسه، بالإضافة إلى الكثير من الكسور والجروح في جسمه. تقول والدته التي ترعاه في المستشفى: «انضغط راسه كتير، قد ما صار في قطب براسه، اللي بشوف المشهد، [بيقول] ما معقول كان يعيش حدا، كيف بقي؟ ما حدا بيعرف».
نهاية آذار الفائت قصف الاحتلال مركزًا تجاريًا يعمل فيه علي، لينجو بأعجوبة. لكنه منذ ذلك الحين يلازم المستشفى، فيما جسده يعاني من إصابات في رأسه ومختلف أنحاء جسده، بينما تقوم أمّه على رعايته. تصوير فاطمة جمعة.

حسين وزينب: «راحت المحطة وراح البيت»

في أحد منازل بلدة تولين، قضاء مرجعيون، كان حسين (17 عامًا) في الطابق الأرضي من المبنى يغسل سيارة رجل في باحة محطة غسيل سيارات يملكها والده، وفي الطابق الأول كانت تسكن أخته زينب، وقد أفاقت للتو من نومها.
يطلب الأب من حسين لبس الجزمة خلال العمل، فيتجه الابن إلى داخل المحطة، وقبل أن يدخل يلمح الطفلة داليا ذات السنوات الخمس تلعب، ويسمع أمها تناديها. كان هذا آخر مشهد يراه حسين قبل وقوع الانفجار.
تتذكر زينب اللحظات الأولى للقصف قائلة: «كنت لحالي بالبيت، حمد الله إمي ما كانت بالبيت» وتتذكر كيف كانت تصرخ وتحاول الزحف نحو الطابق الأرضي. فيما ظلت قطع حديد وحجر تسقط على وجه حسين من شدة الانفجار: «صرت حاول إمشي، برد جسمي وبطل فيي أتحرك».
استشهدت الطفلة داليا، وصاحب السيارة، وأصيب حسين ووالده وأخته زينب ونقلوا إلى المستشفى.
أُدخل الأب إلى قسم العناية الحثيثة بالمستشفى، وأُدخل حسين إلى غرفة العمليات بسبب تعرضه لكسور في رجله، وشعر في الأخرى، وجروح أخرى في الظهر والكتف واليدين. يقول حسين بعدما دُمّر بيتهم ومكان عملهم: «بطل في شي مبين من البيت، راحت المحطة وراح البيت».
قصفت طائرات الاحتلال المنزل الذي تعيش فيه زينب، ويعمل في طابقه الأرضي شقيقها حسين ووالدهما. تصوير فاطمة جمعة.


لا توجد تعليقات حتى الآن

لا تعليقات حتى الآن. بدء مناقشة جديدة.

أضف تعليق