التعليم في زمن الذكاء الاصطناعي: هل تنجو المدرسة؟

16 يونيو 2025

شهد التعليم تحولات كبيرة مع كل تقنية جديدة، من الحاسبة إلى الذكاء الاصطناعي. وفي كل مرة، تكرر الجدل بين من يدعون للحظر ومن يفضلون التكيّف وا


في السنوات الأخيرة، نشأت حالة من الكرّ والفرّ بين الطلاب والمعلمين، مع تزايد استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على إنجاز الواجبات، وحل الاختبارات، وإعداد الأبحاث خلال دقائق معدودة. من جهة أخرى، سارعت المؤسسات التعليمية إلى تطوير برامج وأدوات متخصصة لكشف الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، مثل منصات التحقق من أصالة النصوص وخوارزميات تتعقب أنماط الكتابة غير المألوفة، أملًا في ضبط «الغش الذكي» وحماية النزاهة الأكاديمية.
رغم هذا السباق المحموم، أثبت الواقع أن وتيرة تطور أدوات الذكاء الاصطناعي تسبق دائمًا قدرات أدوات الكشف، فلا تلبث الخوارزميات أن تعجز عن ملاحقة الابتكارات المتسارعة في تقنيات توليد النصوص أو إعادة صياغتها لتبدو طبيعية وبشرية بالكامل. ناهيك عن ظلمها في كثير من الأحيان لطلاب لم يستخدموها قط.
وجدت دراسة من جامعة «ستانفورد» أن أدوات الكشف عن الذكاء الاصطناعي ليست موثوقة، خاصة عند تقييم كتابات الطلاب غير الناطقين باللغة الإنجليزية، إذ صنفت أكثر من نصف مقالات TOEFL المكتوبة بواسطة طلاب غير ناطقين بالإنكليزية على أنها من إنتاج الذكاء الاصطناعي. كذلك، أشار تقرير من «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» (MIT) إلى أن برامج الكشف عن الذكاء الاصطناعي غالبًا ما تكون غير دقيقة، مما يؤدي إلى اتهامات خاطئة للطلاب بارتكاب مخالفات.
هذا الوضع جعل الجامعات والمدارس في حالة دفاع مستمر، تسعى جاهدة لمواكبة موجة تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تزداد ذكاءً وتنوعًا مع كل تحديث. الطلاب بدورهم يطوّرون طرقًا أكثر حيلة، فيستخدمون أكثر من أداة لإخفاء آثار الذكاء الاصطناعي، أو يلجؤون إلى تعديل الإجابات يدويًا لتبدو شخصية وفريدة. من جهة أخرى، تظهر أدوات ذكاء اصطناعي متخصصة في تضليل أدوات الكشف نفسها، فتعيد كتابة النصوص مرارًا أو تحاكي أنماط الكتابة البشرية بدقة متزايدة.
في هذا السباق الذي لا ينتهي، أصبح واضحًا أن الاعتماد فقط على آليات الكشف والتحقق لن يصمد طويلًا. وقد يدفع هذا الجميع للغرق في لعبة استنزاف لا تنتهي، عنوانها الهروب المستمر من الرقابة ومطاردة مظاهر الغش. هذا الواقع يدعو النظام التعليمي إلى إعادة النظر في فلسفة التقييم وطرق التدريس، مع التركيز على جعل التعلّم مساحة لاكتساب المعرفة الحقيقية وتطوير الفكر النقدي، ما يفقد الذكاء الاصطناعي جاذبيته كوسيلة للتحايل أو تجاوز الجهد الذاتي.
اللافت أن تقريرًا نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» تحدث عن تزايد المفارقة في المدارس والجامعات مع انتشار الذكاء الاصطناعي، حيث يبدي كثير من المعلمين قلقهم من لجوء الطلاب إلى أدوات الذكاء الاصطناعي ويعتبرون ذلك تهديدًا للأمانة الأكاديمية، في الوقت نفسه يعتمد الأساتذة على هذه الأدوات في تصحيح الواجبات وتحضير الدروس وتوفير الوقت. فتظهر هنا إشكالية أخلاقية حول عدالة استخدام التكنولوجيا: كيف يسمح للمعلم أن يستعين بالذكاء الاصطناعي في مهامه، ويُمنع الطالب من الاستفادة منها في تعلمه؟

من الآلة الحاسبة إلى الذكاء الاصطناعي

لنجرب للحظة أن ننظر إلى المدرسة من خارجها، سنجد أنها في جوهرها، منظومة تفرض على الأطفال الحضور إليها معظم أيام السنة. يُجمع الطلاب بناءً على أعمارهم، ويوضعون في غرف مصممة بطريقة تُحاكي تنظيم المصانع والإدارات الحديثة. يجلس الأطفال في صفوف طويلة، يواجهون المعلّم ويستمعون لمحتوى الكتب والمناهج، ويترفعون بين الصفوف من خلال عملية انتقال تخضع لتقييمات موحدة تعتمد الامتحانات والدرجات. 
انطلق هذا النموذج مع بداية الثورة الصناعية حين صعدت الحاجة إلى جيل يملك مهارات القراءة والحساب ويلتزم بالنظام والوقت. نشأت المدرسة بشكلها الحديث بوصفها مساحة لإنتاج أفراد يناسبون متطلبات المصانع والإدارات، فانغرست القيم السائدة في المجتمع الصناعي: الطاعة، والانضباط، وأولوية التعليمات على المبادرة الفردية. المدرسة «التقليدية» عملت على تعزيز الامتثال وتخفيض هامش الاختلاف، ورأت في الامتحان المعيار الوحيد لقياس النجاح. وحافظت على بنيتها الراسخة في مقابل عالم يتغيّر بسرعة، بينما المعرفة تنتشر وتُشارك خارج جدران الصفوف المغلقة (كل المعرفة موجودة على الإنترنت). والنظام القائم على التلقين والانتقال الرتيب من صف إلى آخر فقد مبرراته أمام طرق تعلم تفاعلية تضع الطالب في موقع المبادرة والاختيار.
 حين دخلت الآلة الحاسبة صفوف الرياضيات، لم يعد المطلوب حفظ العمليات البسيطة أو تكرار الحلول المعروفة. انتقلت مناهج الرياضيات نحو تدريب الطلاب على المفاهيم العليا والتفكير المجرد. واليوم، يتكرر الجدل نفسه مع دخول الذكاء الاصطناعي: كيف نحافظ على جدوى التعليم وقيمته حين تستطيع الآلة إنجاز الواجبات والاختبارات، وربما كتابة أوراق بحثية كاملة؟
تظهر التجربة العملية في جامعات سويسرا عجز الحظر الشامل لأنظمة الذكاء الاصطناعي وغياب جدواه العملية. الطلاب يستخدمون الأدوات بغض النظر عن التعليمات بالمنع، والأهم أن كثيرًا منهم يدرك حدود الآلة وأخطارها (كالهلوسة أو الانحياز)، ويعتبرها وسيلة دعم لا غنى عنها. هذا الواقع دفع الإدارات إلى صياغة «مدونات سلوك» بدلًا من الحظر، تشترط الشفافية في استخدام الذكاء الاصطناعي وتوضيح كيفية الاعتماد عليه، بهدف تعزيز الوعي النقدي أكثر من محاولة الضبط أو المنع.
أصبح تعلم «ثقافة الذكاء الاصطناعي» شرطًا أساسيًا للاندماج في العالم الأكاديمي والمهني. لم يعد كافيًا معرفة تشغيل الأدوات التقنية. المطلوب فهم حدودها، وآليات عملها، والمخاطر الأخلاقية المرتبطة بها، وكيفية مساءلتها وعدم تصديقها بلا تفكير. يعرف الطلاب اليوم أن الذكاء الاصطناعي قد يخلق معلومات زائفة أو يتورط في تحيّزات خفية، ويحتاجون إلى تدريب منتظم لكشف هذه الفخاخ.
هذا يدعو المناهج إلى إدماج وحدات دراسية حول مبادئ الذكاء الاصطناعي، وتاريخه، وأنواعه، وبنيته الرياضية، وتداعياته على المجتمع والاقتصاد والعمل. يكمن التحدي هنا في الانتقال من التلقين إلى تدريب الطلاب على السؤال الجذري: ما الذي يمكنني تصديقه في إنتاج هذه الأدوات؟ وأين يبدأ دوري الإنساني كمفكر أو ناقد؟

تعلّم التفكير

تعيش المؤسسات التعليمية اليوم لحظة حاسمة تدفعها إلى إعادة تعريف هدفها الأساسي في ظل صعود الذكاء الاصطناعي: كيف نعلّم الطلاب التفكير التحليلي في زمن يستطيع الذكاء الاصطناعي تقديم إجابات جاهزة؟ يقترح تقرير لجامعة «هارفرد» ثلاث خطوات عملية لتحويل هدف التعليم نحو تنمية التفكير التحليلي.
أولًا، يحتاج المعلم إلى تصميم واجبات تجمع بين أكثر من فكرة أو مهارة. المهام متعددة الطبقات تدفع الطلاب إلى ربط ما تعلموه من أكثر من مصدر أو درس أو تجربة شخصية، وتطلب منهم شرح طريقة تفكيرهم، وليس فقط كتابة الجواب النهائي. هذا النوع من الأسئلة يجعل الطالب يفكر بعمق ويبحث عن العلاقات بين المفاهيم، فلا يستطيع الاعتماد فقط على الذكاء الاصطناعي للحصول على الحل.
ثانيًا، ينصح التقرير بتحديث الواجبات الكتابية لتطلب من الطالب تأدية تحليل شخصي للبيانات أو ربط المعلومات بموضوعات ناقشها في الصف أو استنتاج توصيات خاصة به. عندما يعتمد الطالب على خبرته وتحليله، يصعب عليه نسخ الجواب من أي أداة ذكية.
ثالثًا، يتعين على المعلم استخدام أسئلة تحليلية واسعة في نقاشات الصف والدراسة. يجب أن تتحدى هذه الأسئلة الطالب ليختار إطارًا نظريًا مناسبًا لتحليل الحالة، ويشرح سبب اختياره ويقدم رأيه الخاص. بهذه الطريقة يتعلم الطالب التفكير المستقل واستخدام الذكاء الاصطناعي كمساعد، لا كبديل عن الفهم الحقيقي.
من خلال هذه الأساليب، يصبح هدف التعليم تدريب الطالب على التفكير النقدي والتحليل، وليس فقط الحصول على إجابات جاهزة أو اجتياز الامتحانات بسهولة. بهذه الطريقة، ينمو جيل قادر على مواجهة التحديات وصنع أفكار جديدة في عصر الذكاء الاصطناعي.

ملامح مدرسة جديدة ومعلمين جدد

يقدم نموذج مدرسة «ألفا» الأميركية مثالًا على كيفية إعادة ابتكار التعليم عبر الذكاء الاصطناعي. يعتمد الطلاب في «ألفا» على منصات تعليمية تفاعلية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، تسمح لهم بإنجاز كامل المنهاج الأكاديمي اليومي خلال ساعتين فقط. بقية النهار يُصرف في مشاريع وورش عمل تفاعلية ومهارات حياتية مثل القيادة، والخطابة، والبرمجة، والعمل الجماعي، ما يخلق توازنًا بين التعلم الذاتي والتفاعل الاجتماعي.
تغيّر دور المعلم جذريًا في هذا النموذج، إذ لم يعد معلم المادة ناقلًا للمعرفة أو مصحّحًا للواجبات. يُطلق على المعلم هنا اسم «المرشد»، ويركّز دوره على تحفيز الطلاب ومرافقتهم في رحلتهم التعليمية، وتقديم الدعم النفسي والمعنوي، من دون التركيز على تقديم الدروس أو ضبط الصفوف. في الفترة الصباحية، يعمل الطلاب بشكل فردي، يتقدّم كل واحد حسب قدرته وبالسرعة التي تلائم مستواه، ويتولى الذكاء الاصطناعي تقييم فهمهم وتقديم المحتوى الملائم، راسمًا مسارًا شخصيًا لكل طالب. في فترة بعد الظهر، يلتقي الجميع في أنشطة جماعية تركز على تطوير المهارات الاجتماعية والإبداعية، بما في ذلك المشاريع العملية، والورش القيادية، والتدريب على حل المشكلات، والتجربة الحرة.
حققت «ألفا» نتائج أكاديمية ملفتة، إذ تشير التقارير إلى أن طلابها يحققون نموًا أكاديميًا يزيد مرتين إلى ثلاث مرات عن أقرانهم في المدارس التقليدية بحسب اختبارات قياس موحدة. يتجلّى نجاح التجربة كذلك في قبول خريجي المدرسة في جامعات مرموقة مثل «ستانفورد» و«فاندربيلت» و«بابسون»، بالإضافة إلى تقارير الطلاب أنفسهم حول إحساسهم العالي بالاستعداد الجامعي وقدرتهم على التعلم الذاتي والاستقلالية.
من الطبيعي أن يشعر من هم في موقع الأساتذة بنوع من الخوف على مستقبلهم. فالحقيقة أن تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي يصيب المرء بالذهول، خصوصًا عندما يلمس قدرتها على الفهم والتحليل والمنطق. هذه الأنظمة، بالنسبة لوظيفتهم، أخطر من مجيء الآلة الحاسبة من ناحية الدور، لذلك يبدو من المفهوم مقاومة اعتناقها إذا وضعنا أنفسنا مكانهم. ويُفهم أيضًا حرصهم على منع هذه الأنظمة خوفًا من خسارة جيل كامل من الشباب تنمية وعيهم وترقية عقولهم، بسبب محاولات التهرب من إنهاء الواجبات المنزلية بسرعة عبر الذكاء الاصطناعي.
لكن من المهم لمن هم في هذا الموقع، الأساتذة الذين لولا عطاؤهم وجهودهم لما بلغنا هذا المستوى من التنوّر والوعي، وخصوصًا أساتذة الجامعات المبدعين، أن يغيّروا قوانين اللعبة كلها، فلا يبقى كل ممنوع مرغوبًا. العالم يتغيّر، والبقاء دائمًا للأكثر قدرة على التكيّف، وليس للأقوى. فما الذي يمنع مواكبة العصر وتوظيف الآلة في إحدى أصعب المهام البشرية؟ وما المانع من تحوّل الأستاذ إلى مرشد يراقب نمو الطلاب وينبّههم إلى مواطن الضعف؟ المعرفة لم تكن يومًا حشوًا للأذهان، إنما عبور نحو اكتشاف الذات والكون، وحوار دائم مع الأسئلة الكبرى للحياة وسط عالم يعيد اختراع نفسه كل يوم.


لا توجد تعليقات حتى الآن

لا تعليقات حتى الآن. بدء مناقشة جديدة.

أضف تعليق